العثمانيون والتسامح الديني
العثمانيون والتسامح الديني
شبكة أخبار تركيا للناطقين باللغة العربية :
يقول المتعصب الروسي جيرنيو فسكي، الذي برز بقوة على المسرح السياسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي: “الجنس التركي الملعون هو الجنس الذي هدد أوروبا ولا يزال، وهو الجنس الذي دمر القسطنطينية وقرع أبواب فيينا”.
بهذه النفسية الحاقدة كتب أعداء الدولة العثمانية تاريخها، ومع الأسف الشديد، نقل عنها بعض كتاب العرب دون التعريج على المصادر الأخرى، خاصة الأرشيف العثماني، ولذا خرجت الروايات التاريخية الغربية عن العثمانيين مشوهة ظاهرة العوَر.
ومن ذلك اتهامهم للدولة العثمانية بالتعصب الديني، وهي تهمة لا شك ناتجة عن عدائهم للأصل، وهو انتماء هذه الدولة للعالم الإسلامي، فهل حقا كانت الدولة العثمانية متعصبة دينيا؟ لندع التاريخ يتحدث، ولنترك المجال لشهادات المنصفين الغربيين تجلي الحقيقة.
بصفة عامة، حددت الدولة العثمانية موقفها من غير المسلمين استنادا إلى القوانين الإسلامية التي حرصت على الالتزام بها، وكان تسمي كل طائفة من غير المسلمين باسم “ملة”، ولكل منها رئيس ديني ينظر في شؤونها الدينية يسمى “ملة باشي”، ويفصل في قضايا الأحوال الشخصية باتباع ملته دون تدخل من الدولة.
وكان أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية اليونانية هم أبرز هذه الملل التي حظيت بالاستقلال في إدارة شؤونها الدينية، وكان مقر رئيسها “البطريرك” في إسطنبول.
وفي الوقت الذي كانت الطائفة الكاثوليكية تهاجم الأرثوذكس وتكيل لهم الضربات في معظم الدول الأوروبية، كانت الدولة العثمانية تسمح بوجود طوائف دينية متعددة، من بينها الطائفة اليهودية التي كان يقوم السلطان بتعيين الحاخام الخاص بها والذي كان يتمتع بنفوذ مماثل لما يتمتع به البطريرك.
حرص سلاطين الدولة العثمانية على إظهار روح التسامح الديني مع أصحاب الملل، وكان ذلك واضحا منذ تأسيس الدولة، فالمؤسس عثمان بن أرطغرل يحكم لبيزنطي نصراني ضد تركي مسلم في مسألة، فقال له الأول: تحكم لصالحي وأنا على غير دينك؟ فأجاب عثمان: كيف لا أحكم لصالحك والله الذي نعبده يقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
شهد عام 1354م أول عبور عثماني إلى البر الأوروبي للإمبراطورية البيزنطية، حيث استولى الأمير سليمان بن أورخان في ثمانين من الجند على ميناء جيمنك، واستولى على السفن الحربية لجلب الإمدادات من البر الآسيوي، أما السفن المدنية المملوكة للنصارى فترك لهم حرية التصرف فيها، وعندما أراد استخدام بعضها أصر أن يدفع لأصحابها أجورا مجزية على غير عادة المنتصرين.
تعبيرا عن هذه الروح، اتخذ السلطان سليم الأول طبيبا خاصا به من اليهود، وكان يرافقه في معاركه الحربية، وكذلك فعل خلفه السلطان سليمان القانوني، الذي استحدث وظيفة جديدة هي “الكغيا”، مهمة القائم عليها رعاية مصالح الطائفة لدى السلطات الحاكمة، ويسمح له بالتواصل بشكل مباشر مع السلطان ووزراء الباب العالي لتقديم ما يتعلق بقضايا الطائفة.
كانت الدولة العثمانية ترعى أصحاب الملل وتؤمنهم على القيام بشعائرهم الخاصة بهم من تعبّد ومراسم جنائز ونحوهما في جو من الأمان، وكانت تعهد إلى الانكشارية بحراسة الكنائس.
ويذكر الدكتور موسى موسى نصر في كتابه “صفحات مطوية من تاريخ مصر العثمانية”، أن دير سانت كاترين يضم مرسوما سلطانيا عن الملل بتاريخ 19 مايو/ أيار عام 1525م، وآخر في أول يناير/ كانون الثاني 1533م، يتعهد فيهما السلطان سليمان بحفظ ذمتهم مشيرا إلى مرسوم سابق أصدره والده السلطان سليم بحقهم، متعهدا بإمضاء ما أصدره الوالد من رعايتهم.
كما يستدل الدكتور موسى على تسامح الدولة العثمانية مع أصحاب الملل، بوثائق دير سانت كاترين في مصر، التي تتضمن التماسات تقدم بها رهبان طور سيناء، إلى السلطات الحاكمة في العهد العثماني لحمايتهم من العربان المجاورين، فكانت الفرمانات تخرج من إسطنبول أو من الديوان المصري بمنع العربان من مضايقتهم، وأن ينال النصارى نصيبهم كافيا من العناية والرعاية والتأمين.
ويضم أرشيف الدير أيضا وثيقة فيها إشارة إلى حكم شرعي صادر لمصلحة النصارى، بتاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول 1521م، وكان الرهبان قد أقاموا دعوى ضد الوالي أنه يسكن في بيت يملكونه، فقضى القضاة بتمكين النصارى من بيت الوالي وإلزامه بدفع كافة المتعلقات المالية.
وفي رسالة إلى فرانسوا الأول ملك فرنسا 1529م، قال السلطان سليمان: “كل مكان في أيدي النصارى يبقى لهم، ولا أسمح لأحد في مدة حكمي العادل أن يشوش راحتهم، وما داموا تحت حمايتي فأرخص لهم أن يمارسوا أمور دينهم وطقوسهم في معابدهم بلا معارضة”.
فتحت الدولة العثمانية أبوابها لأهل الملل الفارين من التعصب الديني في بلادهم، من إسبانيا وروسيا وبولندا والمجر والبلقان وغيرها، ووجدوا في أراضيها الأمن والسلام، حتى تنفذوا فيها وتغلغلوا في مؤسساتها.
ومن ذلك توجيه السلطان بايزيد أمراء الدولة برعاية غير المسلمين الفارين من بطش محاكم التفتيش في إسبانيا، وكان البحارة العثمانيون ينقذون المسلمين في الأندلس بعد سقوطها، ومعهم أصحاب الملل المضطهدين فيها.
لقد نالت المصادر الأوروبية من عدالة السلطان محمد الفاتح عندما دخل القسطنطينية، ونُسبت إليه فظائع وجرائم هو منها براء، ولذا نورد هذه الشهادة التاريخية التي تعد خير رد على هذه التهم، لأن صاحبتها هي ماري ملز باتريك في كتابها “سلاطين بني عثمان”، الذي نفثت في صفحاته ركام أحقاد قرون طويلة من العداء للإسلام والمسلمين وفق تعبير المفكر الراحل زياد أبو غنيمة.
تقول باتريك: “الواقع أن السلطان محمد الفاتح قد أظهر تسامحا عظيما مع المسيحيين، إذ ليس أدل على تسامحه مع المسيحيين من قوله هذه الجملة بحروفها: (أقسم أنكم سترون كنيسة تشيد لكم ليجتمع شعبكم للصلاة والتضرع لله كما يفعل المسلمون)”.
وتضيف: “كان لكل ملة في زمنه رئيس ديني لا يخاطب غير حكومة السلطان مباشرة، ولكل ملة من هذه الملل مدارسها الخاصة، وأماكن للعبادة وأديرة، كما أنه لم يكن يحق لأي أحد أن يتدخل في ماليتها، وكانت تطلق الحرية لكل ملة لتتكلم اللغة التي تريدها”.
أما المؤرخ الفرنسي كارادكو فيسجل شهادته في كتابه “مفكرو الإسلام”، فيقول: “حين دخل السلطان محمد كنيسة آيا صوفيا أراد أن يراعي شعور النصارى، فلم يشأ أن يمحو العديد من صور الفسيفساء التي امتلأت بها جدران الكنيسة، وقد كان بإمكانه كمنتصر أن يفعل ذلك”.
ولعل من أبرز مظاهر التسامح الديني التي أبداها العثمانيون لأهل الملل، وثائق الأحوال الشخصية الخاصة بهم في المحاكم العثمانية، والتي أسهبت في تناولها د. سلوى علي ميلاد، في كتابها “وثائق أهل الذمة في العصر العثماني وأهميتها التاريخية”.
ومن جملة ما استدلت به، أن كثرة وثائق أهل الذمة المقيدة بسجلات المحاكم في العصر العثماني تشير إلى رغبتهم الأكيدة وحرصهم على التقاضي وتوثيق عقودهم لدى القضاة المسلمين، وتفيد أيضا موافقتهم على تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية عليهم ومساواتهم في التقاضي بينهم وبين المسلمين من جميع الوجوه.
ولم يكن التسامح الديني لدى الدولة العثمانية مجرد إجراءات سياسية لتسيير الحياة العامة وفق لعبة التوازنات، بل كان صبغة في التعامل مع الآخرين انطلاقا من تعاليم الإسلام التي دانت بها الدولة العثمانية، حتى إنها كانت تهتم بقضايا الأقليات الدينية في الدول الأخرى.
ففي عام 1572م، ارتكبت مذبحة سانت بارتيليمي في فرنسا، وقتل عشرات آلاف البروتستانت على يد الكاثوليك بمباركة البابا غريغوريوس الثالث عشر، وامتلأ نهر السين بالدماء وأشلاء الجثث.
ومع أن فرنسا كانت حليفا هاما للدولة العثمانية، لكن ذلك لم يمنع السلطان سليم الثاني من إرسال رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى الملك شارل التاسع يوبخه فيها على تعامله مع الطائفة البروتستانتية، وقدم له نموذج الدولة العثمانية في التعامل مع أهل الملل كملجأ للجماعات الدينية المضطهدة، بحسب المؤرخ الهندي سانجاي سوبرهمانيام في كتابه “الإمبراطوريات بين الإسلام والمسيحية”.
مظاهر التسامح الديني في الدولة العثمانية مع أهل الملل حتما لا يتسع المقام للإحاطة بها، ولكن لا يمنع سرد هذه المظاهر من القول بأن هناك فترات لم تراع فيها روح التسامح مع أهل الملل، فالدولة العثمانية ليست دولة ملائكية، فلها ما لها وعليها ما عليها، غير أنها كانت في المجمل والغالب والأعم تتعامل بسماحة الإسلام مع غير المسلمين، خاصة إذا عقدنا مقارنة بينها وبين غيرها من الدول والإمبراطوريات الأخرى في شأن التسامح الديني، فحتما ستكون الكفة الراجحة للعثمانيين.