اتفاق مدريد وسياسة التوازن في السياسة الخارجية التركية
اتفاق مدريد وسياسة التوازن في السياسة الخارجية التركية
شبكة أخبار تركيا للناطقين باللغة العربية :
منذ انضمامها إلى عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952، وتركيا تدعم سياسات التحول في الحلف.
وبالرغم من الأزمات والخلافات التي كانت تظهر من وقت لآخر بسبب تعارض المصالح، كانت عضوية تركيا في الناتو العمود الفقري لعلاقاتها مع دول الغرب.
وكانت عضوية الناتو أمرا لا غنى عنه بالنسبة لتركيا في النظام العالمي ثنائي القطب أثناء فترة الحرب الباردة (1947-1991).
وجعلت رغبة تركيا في مواجهة تهديدات الاتحاد السوفييتي، وتعزيز هويتها الغربية، حلف الناتو مسألة بالغة الأهمية بالنسبة لها.
استراتيجية تركيا تجاه الناتو
في نهاية الحرب الباردة حدثت خلافات في وجهات النظر بين تركيا وحلفائها في الناتو بخصوص توصيف الهوية والتهديدات، إلا أن أنقرة ظلت تدعم سياسات الحلف الخاصة بالتحول.
وسعت تركيا لبذل ما في وسعها للمساهمة في دعم سياسة الباب المفتوح التي تهتم بتوسعة الحلف، ودعم مكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتهديدات السيبرانية، وعمليات القرصنة البحرية، كما حاولت تجنب الوقوع في خلافات مع باقي أعضاء الحلف.
وقدم الجيش التركي مساهمات كبيرة في عمليات حفظ السلام المتعددة الجنسيات التي ينفذها حلف الناتو.
وعند النظر إلى الأحداث من هذه الخلفية، نرى أن ترجيح تركيا التوصل إلى تفاهم بشأن عضوية فنلندا والسويد بالناتو، ورفع اعتراضها على عضويتهما ليس بالأمر المحير.
بل كان سيصبح الأمر محيرا لو كانت تركيا العائق الوحيد أمام انضمام الدولتين، اللتين فضّلتا التخلي عن سياساتهما الأمنية القائمة على الحياد وعدم الانضمام للحلف، والتي اتبعتاها منذ سنوات.
ومن الطبيعي جدا أن تعبر دولة عن مخاوفها وحساسياتها الأمنية والوطنية بصفتها عضو في الناتو، وليس من الإنصاف قيام بعض الأوساط المعادية لتركيا بتقديم ذلك على أنه تطور سلبي أو تقييمه على أنها ابتعدت في وجهتها الاستراتيجية عن الغرب.
بينما يتم تناسي قيام اليونان بالاعتراض لعدة سنوات على عضوية مقدونيا الشمالية في الناتو، واعتراض ألمانيا وفرنسا على عضوية أوكرانيا وجورجيا بحجة علاقات البلدين القوية مع روسيا.
وظهرت آراء تزعم أن تركيا ستتخذ مصالحها القومية ذريعة للاعتراض على انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، وبالتالي ستتسبب في ضعف الحلف.
والحقيقة أنه عند النظر إلى السياسات التي اتبعتها تركيا بخصوص تحول وتوسع الحلف منذ الحرب الباردة وحتى اليوم، يمكن رؤية أنها لم تتحرك في أي وقت عكس القناعات المشتركة في الحلف.
فالتفاوض حتى نقطة معينة، مع إعطاء الأولوية للمصالح القومية، ثم التصرف في النهاية بما يتوافق مع القناعة المشتركة، يُعد من مبادئ السياسة الدولية.
وبدأت تركيا قبل فترة طويلة تغيير وجهة نظرها بخصوص الناتو تماشيا مع مفهوم الاستقلال الاستراتيجي، والسياسة الخارجية متعددة الأطراف.
عضوية فنلندا والسويد بالناتو
من المعروف أن فنلندا والسويد لم تظهرا الحساسية اللازمة تجاه مكافحة تركيا للإرهاب، بل دعمتا ميليشيات “واي بي جي/ بي واي دي”، امتداد تنظيم “بي كي كي” الإرهابي في سوريا.
كما أن بعض أعضاء تنظيم غولن الإرهابي، فروا إلى فنلندا والسويد عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، ولم يتم تسليمهم بالرغم من كل المطالب التركية.
وفرضت السويد حظرا على تصدير الأسلحة لتركيا بحجة استخدامها في العمليات العسكرية التركية شمالي سوريا، ويُعد ذلك أحد أسباب الخلاف مع تركيا.
ومن الحقائق المعروفة لدى أنقرة أيضا، وجود أعداد كبيرة من أنصار “بي كي كي”، في فنلندا والسويد، لهم تأثير في انتهاج الدولتين سياسات مناهضة لتركيا.
ففي 28 يونيو/ حزيران الماضي، وعقب قمة الناتو في مدريد، وقّعت تركيا وفنلندا والسويد مذكرة تفاهم ثلاثية.
وقبلت ستوكهولم وهلسنكي دعم أنقرة في مكافحتها للإرهاب، وإنهاء حظر تصدير الأسلحة إليها، وتعهدتا بإتمام الإجراءات الإدارية والقانونية اللازمة بخصوص تسليم أنصار تنظيمي “بي كي كي” و”غولن”، الأمر الذي يجب أن يُرى على أنه مكاسب لتركيا.
وعند النظر إلى السياسة الخارجية التركية على مدار الأعوام الثلاثة الماضية نرى أن عدم اعتراضها على توسع الناتو ذو مغزى كبير.
وحظيت السياسة التي انتهجتها تركيا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية وحتى اليوم بتقدير كبير، حتى وإن لم تكن فنلندا والسويد تقدمتا للانضمام لحلف الناتو.
فقد كان التوسط بين روسيا وأوكرانيا، والسعي لإنهاء الحرب في أسرع وقت من أولويات السياسة الخارجية التركية.
كما أن الدور الإيجابي التركي في تجاوز أزمتي الطاقة والغذاء، اللتين تسببت بهما الحرب، ورفع قدرات أوكرانيا الدفاعية أمام روسيا، كان محل تقدير.
ويمكن أن تبدو الخطوات التي اتخذتها تركيا في إطار سياسة التوازن التقليدية متعارضة مع السياسات التي تبنتها الدول الأعضاء في الناتو تجاه روسيا، إلا أن دعم أنقرة في المرحلة الأخيرة لانضمام ستوكهولم وهلسنكي للناتو، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك حقيقة أن تركيا تحرص على أن تكون ترجيحاتها الاستراتيجية متماشية مع سياسات الحلف.
مكاسب تركيا في قمة الناتو
سهّل التوتر بين روسيا والناتو، عقب اندلاع الحرب على أوكرانيا، من عملية انضمام فنلندا والسويد للحلف.
ويُعد خروج حلف الناتو من هذه الأزمة معززا قوته نتيجة جيوسياسية هامة.
وهنا يجب تسجيل الدور الحساس الذي لعبته تركيا في التوصل لهذه النتيجة.
فرفع تركيا اعتراضها على انضمام فنلندا والسويد أزال كل علامات الاستفهام بخصوص الترجيحات الاستراتيجية لأنقرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المرحلة كانت مهمة للغاية بالنسبة لتركيا، إذ مكنتها من التعبير عن حساسياتها الأمنية على الصعيد العالمي، وساعدت في أن يهتم الغرب بهذه الحساسيات.
ويمكن أن تنعكس إشادة الدول الأعضاء في الناتو، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، بالموقف التركي البنّاء، على علاقات أنقرة مع دول الغرب.
وقدّم لقاء الرئيس التركي أردوغان مع نظيره الأمريكي جو بايدن، عقب توقيع مذكرة التفاهم الثلاثية، إشارات مهمة حول مستقبل العلاقات التركية الأمريكية.
ويمكن أن تمهد إشادة بايدن بالموقف التركي تجاه الناتو، وبسياسات البلاد تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، الطريق إلى نتائج إيجابية في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، وأن تقوي موقف بايدن في الحصول على موافقة من الكونغرس لبيع مقاتلات F-16 لتركيا.
المستشار الأكاديمي بمعهد السياسات الخارجية (تركيا)