أخبار تركيا المحليةالأرشيف

بديع الزمان النورسي ونضاله ضد العدوان الروسي

بديع الزمان النورسي ونضاله ضد العدوان الروسي

شبكة أخبار تركيا للناطقين باللغة العربية  :

في العام الذي تلا جلوس السلطان عبد الحميد على عرش الدولة العثمانية، ولد بديع الزمان سعيد النورسي، أحد أبرز العلماء المصلحين في الدولة العثمانية، والذي ترك سيرة وآثارا محفورة في المجتمع التركي إلى اليوم، إذ لقب بـ”فارس السيف والقلم”.

هذا العالم المصلح قد بلغت شهرته الآفاق، ليس فقط في جانب العلم والزهد والورع، وليس فقط في ولوجه غمار السياسة، وليس فقط في مساعيه لتوعية الجماهير وتشخيص الداء ووصف الدواء لأمراض الأمة، ولا لكونه ترك إرثا عظيما من المؤلفات الجليلة أبرزها رسائل النور، فكلها صفحات للرجل منها نصيب، ولكن لأنه كان رجل مقاومة من الطراز الأول.

إذ قدم النورسي أنموذجا للعالِم الإصلاحي الذي لم ينزوِ إلى الزوايا والمساجد ويترك مجتمعه في مواجهة أعداء الخارج، بل كان في الطليعة، حتى قدم مثالا فريدا في المقاومة ضد العدوان الروسي خاصة.

ذاع صيته منذ سنوات شبابه الأولى كعالم وداعية بارز، فلم يكن قد تجاوز بعد خمسة وثلاثين عاما حتى عين عام 1912م قائدا للفدائيين القادمين من شرقي الأناضول قبيل اندلاع حرب البلقان.

ثم صار قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى عضوا في مؤسسة عسكرية وسياسية وأمنية سرية تسمى “تشكيلات خاصة”، تشكلت بأمر السلطان العثماني لمواجهة أعداء الدولة العثمانية والحفاظ على أراضيها، وضمت إلى جانبه عددا من الكتاب والمفكرين، كان النورسي أكثرهم بذلا ونشاطا.

وبعد أن شارك علماءَ الدولة العثمانية في إصدار فتوى الجهاد بعد اندلاع الحرب، اندفع النورسي وطلابه في جبهة القفقاس (القوقاز) التي دارت عليها معارك طاحنة، وأبلى هو ورجاله بلاء حسنا نال إعجاب وتقدير القائد العثماني العام للجبهة أنور باشا.

وفي هذه الأثناء كان الجيش الروسي يحاول الاندفاع نحو الأناضول، ودخل بالفعل مدينة أرضروم بعدد يفوق تعداد الجيش العثماني ثلاثة أضعاف.

ويحكي النورسي نفسه في كتاب الملاحق عن بعض ما تعرض له ورفاقه على إحدى الجبهات من صعاب وأخطار فيقول: “في أثناء الحرب العالمية الأولى كنت مع الشهيد المرحوم الملا حبيب، نندفع بالهجوم على الروس في جبهة “پاسينلر”. فكانت مدفعيتهم تواصل رمي ثلاث قذائف علينا في كل دقيقة أو دقيقتين، فمرّت ثلاث قذائف من فوق رؤوسنا تماماً وعلى ارتفاع مترين”.

سافر إلى مدينة “وان” بعد أن زحف الروس إليها، وشكل كتائب من المتطوعين المدنيين من طلابه لتكون ظهيرا للجيش النظامي للدفاع عنها، وتحصّن هو ورجاله فيها لمواصلة القتال، وأصر على النضال حتى الموت، إلا أن جودت بك والي المدينة أصدر أوامره بالإخلاء، وشدّد أوامره على النورسي ورفاقه بالانسحاب إلى “وسطان” لتأمين عملية النزوح.

في هذه الأثناء شن الروس هجوما شديدا على “وسطان” فتصدى لها النورسي في أربعين رجلا من طلابه، فحالوا بذلك بين وقوع النازحين في أسر الروس، وقاموا بتأمين طريق لنجاة هؤلاء النازحين.

وفي سيرة بديع الزمان النورسي التي دونها هو في أواخر حياته مع عدد من طلابه، يحكي هؤلاء الطلاب طرفا من عبقريته العسكرية الفطرية.

فجاء في سيرته: “كان من جملة تصديه للأعداء، أنه تحرك مع طلابه ليلا على هيئة هجوم نحو تل مرتفع يشرف على قوات القوزاق الروسية ليبث الرعب في صفوفهم، وأوهمهم بوصول تعزيزات كبيرة، فأشغلهم وأعاق تقدمهم، وحال بين وقوع “وسطان” تحت الاحتلال الروسي”.

وفي أثناء المعارك، كان النورسي يجمع بين الحسنيين، مقارعة المحتلين، والتصنيف في تفسير القرآن، إذ كان يعود إلى الخندق، ويملي على طالبه النجيب “الملا حبيب” تفسير “إِشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” والذي ألف القسم الأكبر منه في أتون المعارك.

وكان يملي على تلميذه أحيانا وهو فوق صهوة جواده، وأحيانا في خط الدفاع الأول، فكان “فارس السيف والقلم” كما عبر الدكتور عبد الكريم عكيوي في كتاب “رسائل عن النورسية”.

كان فدائيو الأرمن يقتلون أطفال المسلمين في المدن التي يستولي عليها الروس، فحدث أن جمع رجال النورسي آلاف الأطفال خلال المعارك، فقال النورسي لرجاله “لا تتعرضوا لهؤلاء بشيء”، فأطلق سراحهم، فعادوا إلى خلف خطوط التماس مع الجيش الروسي، وعلى إثر ذلك تأثر بعض الأرمن وتعاهدوا على عدم قتل أطفال الأتراك أسوة بما فعله سعيد النورسي.

بعد أن احتل الروس أطراف مدينتي “وان” و “موش”، زحفوا صوب مدينة “بتليس” بثلاث فرق عسكرية، ويحكي هو ذاته في كتاب “الملاحق” عن معركة “بتليس” إذ تقدم إلى الخطوط الأمامية، فيقول: “في معركة بتليس وفي الجبهة الأمامية منها، أصابت ثلاث طلقات موضعا مميتا مني، وثقبت إحداها سروالي ومرت من بين رجليّ”.

ونظرا لتفوق الروس في العدة والعدد، أصدر والي المدينة أمرًا بالانسحاب، فرفض النورسي لأن سقوطها سيعني هلاك النازحين، وأعلن رغبته في المضي بالقتال حتى الموت، وإزاء هذا التصميم، وكل إليه والي المدينة والقائد العسكري مهمة إحضار ثلاثين مدفعا يحاول الجنود المتبقون في “موش” بعد سقوطها تهريبها إلى “بتليس”، وأكد عليه أن نجاحه في هذه الهمة سوف يجعلهم يقاتلون بها أياما وينجو الأهالي.

قبل النورسي المهمة، عازما على إحضار المدافع أو الموت، فتوجه بثلاثمائة متطوع ليلا صوت “نورشين” حيث توجد المدافع، ووزع رجاله كل مجموعة لتحرير مدفع، وبالفعل تم تحرير جميع المدافع، وذهبوا بها إلى “بتليس”، حيث استمر القتال ضد الروس حتى تم إجلاء معظم الأهالي بسلام.

لم يكن النورسي يحتمي بالخنادق، بهدف بث الحماسة والشجاعة في قلوب المقاتلين، وأثناء التحرك على خط المواجهة تعرض لإطلاق الرصاص إلا أنه لم يصب.

وبعد انسحاب الوالي والقائد العسكري والجنود والمتطوعين من المدينة تحت ضغط الاعتداءات الروسية، رفض سعيد النورسي الخروج من المدينة، وبقي هو وثلة من رجاله يدافعون عن المدينة وعمن بقي فيها من الضعفاء، وفي الصباح خاضوا معركة شرسة مع الروس نتج عنها استشهاد معظم أصحابه، من بينهم ابن اخته الذي افتداه بحياته.

بقي النورسي في ثلاثة من أصحابه فقط، فاخترقوا خطوط العدو وقاموا بالاختباء تحت جسر مقام على جدول ماء، وظلوا في الماء والطين ببنادقهم أكثر من ثلاثين ساعة بعد أن أصيب وكسرت رجْله، ولما رأى النورسي جهدهم وإرهاقهم أمرهم بالفرار بحياتهم وتركه في المكان، فأجهشوا في البكاء ورفضوا بشدة، وظلوا ساعات طوال في هذا الموضع تحت سطوة البرد الشديد والجوع والثلوج التي غطت كل مكان، إلى أن أسرهم الروس.

نقل بديع الزمان النورسي إلى معسكر الأسرى، وهناك جرت واقعة شهيرة تظهر صلابة الرجل واعتزازه بدينه، حيث حضر إلى المعسكر يومًا القائد الروسي العام “نيقولا نيقو لافيتش”، فأدى الجميع التحية له عدا النورسي الذي لم يقم من مكانه، فظن أنه لم يعرفه، فكرر المرور من أمامه فلم يقف له النورسي ولم يؤد التحية، فقال الجنرال له من خلال مترجم: أما تعرفني؟.

فأجاب النورسي بأنه يعرفه، فاعتبرها القائد إهانة لشخصه وللقيصر أيضا، فقال النورسي إنه لم يوجه إليه إهانة، ولكنه إنسان مؤمن، والإيمان يرفعه على الجنرال، ومن ثم لا يقوم له، فأحيل إلى المحاكمة العسكرية، فرجاه رفقاؤه بتوجيه اعتذار للجنرال، فأبى قائلا: الإعدام من هؤلاء جواز سفر لي إلى الآخرة.

وقبل تنفيذ حكم الإعدام طلب النورسي منهم أن يسمحوا له بالصلاة، فأذنوا له، فبينما هو يصلي أعجب الجنرال بشخصيته، وأخبره أنه لم يكن يعلم أنه فعل ما تمليه عليه عقيدته، فأسقط حكم الإعدام عنه، وبقي أسيرا لدى الروس قرابة عامين ونصف العام، لم يقف فيها مكتوف الأيدي، بل كان يقوم بدوره الوعظي لرفقائه الأسرى، تمكن بعدها من الفرار من الأسر، ووصل إلى إسطنبول، ليواجه بعدها احتلالا آخر وهو الاحتلال الإنجليزي.

عاش بعدها النورسي زمنا طويلا يقوم بدوره الإصلاحي والدعوي، وقام بجهود ضخمة للمحافظة على الهوية التركية، وتعرض جراء ذلك للسجن والنفي، وكانت محطة النهاية 25 رمضان، 1960، حيث توفي النورسي تاركا إرثا ثقافيا وفكريًا أثر في المجتمع التركي إلى اليوم.

 

صفحتنا على فيس بوك

لمتابعة صفحتنا على تويتر

لمتابعة قناتنا والاشتراك بها على يوتيوب

لمتابعة قناتنا على تلغرام و الاشتراك بها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى